نضال قسوم
يشهد العالم، وعلى نحو واسع، كيف عرقل فيروس الكورونا مناشط الحياة وضرب العديد من المصالح، من الاقتصاد والصحة إلى الثقافة والرياضة. وكيف أثّر بشكل كبير على التعليم، من رياض الأطفال إلى التدريس الجامعيّ والأنشطة البحثيّة. وكان من مظاهر ذلك إعادة أكثر من مليار طفل إلى منازلهم، إما لانتظار تحسّن الأوضاع أو – في أفضل السيناريوهات، بل في حالات قليلة – ليتم تدريسهم عبر الإنترنت؛ وقد تسارع إغلاق الحكومات في أرجاء العالم للمدارس والجامعات لعدة أسابيع أو، في حالات عديدة، حتى إشعار آخر. وانضمّت إلى هذه الإجراءات، دول عربية وأوروبية وآسيوية كثيرة.
في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، كانت مئات الجامعات تنقل كل تعليمها الى الإنترنت، وقررت جامعة بيريا في ولاية كنتاكي الأمريكية، وربما التحقت بها أخرى، إنهاء الفصل الدراسيّ مبكّرًا. ولتوفير معلومات محدّثة باستمرار حول وضع الجامعات، قام الدكتور براين ألكسندر من جامعة جورجتاون بإنشاء مستند جدول بيانات مفتوح على جوجل، يعرض أوّلاً بأوّل ما تتّخذه الجامعات الأمريكية من قرارات متعلّقة بسير العملية التعليمية. وحتى يوم السبت 28 مارس، كانت القائمة تضم 286 جامعة أمريكية، بما في ذلك جامعة هارفارد، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، كورنيل، برينستون، والعديد من الجامعات المرموقة الأخرى.
وفي منطقتنا، أعلنت وزارة التربية والتعليم في الإمارات العربية المتحدة عطلة الربيع للمدارس الابتدائية والثانوية في وقت أبكر مما كان مقرّراً (أسبوعان ابتداءً من 8 مارس بدلاً من 22 مارس)، وذلك لإتاحة الفرصة لتوفير متطلّبات التعليم عبر الإنترنت، الذي سيتمّ على مدى الأسبوعين التاليين على الأقلّ. فيما شرعت الجامعات في التدريس عبر الإنترنت ابتداء من 8 مارس ولتستمرّ حتى 5 أبريل على الأقلّ.
وغنيّ عن القول إن القرارات المذكورة آنفاً جلبت عددًا من التحدّيات، سواء لنا هنا في الإمارات العربية المتّحدة أو للطّلاب والمعلّمين حول العالم. أولاً، قلّة من المعلمين كانت لديهم خبرة ولو محدودة في التدريس عبر الإنترنت، على الرّغم من أنّ الجامعات في الإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة والدول المتقدمة الأخرى كان لديها منذ فترة طويلة أنظمة إدارة وتعلّم عبر منصّات إلكترونية تسمح بمجموعة متنوّعة من الأنشطة والتفاعلات. ثانياً، لم يكن من الواضح كيف سنتمكن من إجراء بعض الأنشطة، مثل التجارب المخبريّة، أو تعويضها بأنشطة عبر الإنترنت تحقق الهدف التعليمي المطلوب. أمّا التحدّي الثالث، وهو الأكثر أهمّيّة، فهو أنّ الأساتذة والإداريين لا يزالون يبحثون في كيفية إجراء اختبارات معقولة، عندما يكون الطلاب في المنزل أو يجلسون مع الأصدقاء، دون مراقبة. وأخيرًا، على الأقلّ في أجزاء كثيرة من العالم – بما في ذلك الولايات المتحدة – برزت مشكلة عدم امتلاك الجميع وصلة بالإنترنت سريعة وموثوقة، بالإضافة إلى الأجهزة والبرامج الإلكترونية للقيام بكلّ ما يتطلّبه التعليم عن بعد.
في الجامعة حيث أعمل، استعدّ فريق تكنولوجيا المعلومات والحوسبة الأكاديمية فورًا وقدّموا التدريب الأساسيّ لجميع أعضاء هيئة التدريس في الأيّام الثلاثة التي سبقت تاريخ بدء التعليم عبر الإنترنت. وتمّ نشر أدوات البرمجيات والمنصّات التعليمية المناسبة؛ وفي في بعض الحالات، وجب شراء معدّات صغيرة (كاميرات وسمّاعات وأجهزة لوحيّة) وإتاحتها للأساتذة، حسب طريقة التدريس التي كان كلّ واحد منا سيعتمدها.
وكان على الأساتذة إختيار الطريقة المناسبة لتقديم المحتوى التعليميّ في كل مادة، إما بشكل متزامن (“لقاء” الطلاب عبر الإنترنت في الوقت الفعليّ، باستخدام الفيديو والصوت، ومشاركة الشاشات، والسماح للطلاّب بطرح الأسئلة شفهيًّا أو من خلال شاشة “الدردشة”، وما إلى ذلك) أو بشكل غير متزامن (تسجيل محاضرة، ثمّ نشرها، ليقوم الطلاّب بمشاهدتها بأنفسهم متى يشاؤون، ثم جدولة جلسات للمناقشة).
كما كثّف مجتمع التعليم العالي في جميع أنحاء العالم جهوده لتبادل الموارد والأفكار والتجارب. فقد نظّم ذوو الخبرة السابقة في التدريس عبر الإنترنت ندوات عن بعد لصالح الجدد. وتمّ تبادل وثائق مثل “إرشادات التدريس عن بعد في حالات الطوارئ” وإثراؤها من طرف مشاركين حول العالم، وهكذا دواليك.
ومما تجدر الإشارة إليه أنّ التدريس عبر الإنترنت، وبالرّغم من أنّه يمثّل 10 إلى 20 في المئة فقط من التعليم الجامعيّ في أرجاء العالم حاليّا، فإنه معروف منذ حوالى 25 عامًا. وبالنسبة للطلبة الأمريكيين فقد أخذ حوالى 40 بالمئة منهم (قرابة 6 ملايين) مساقاً واحداً على الأقلّ عبر الإنترنت في عام 2016، وحوالي 10 بالمئة تابعوا دراساتهم حصريّا في مساقات عبر الإنترنت، ولذا فالعديد من المدرّسين يتمتّعون بخبرة جيدة في هذا الشكل من التدريس. وبالنسبة لي، منذ حوالي 15 عامًا، أخذت ستّة مساقات تدريبية (مدّة كلّ منها ستة أسابيع) وبذلك حصلت على شهادة في التدريس عبر الإنترنت. لقد تعلّمت الكثير حينها، بما في ذلك كيفية التواصل عن بعد مع الطلاب بشكل فعاّل، وكيفية تصميم المساقات وتدعيمها بالأنشطة المناسبة، وطرق تضمين أنماط التعلّم المختلفة، وإجراء التقييمات، وما إلى ذلك.
ويبقى السؤال فيما يتعلق بالتدريس عبر الإنترنت دائماً هو: هل يقدّم هذا النوع نفس الجودة من التعليم – إن لم يكن أفضل من التدريس المباشر في الفصل؟ في الواقع، تصعب الإجابة عن ذلك لأنّ دراسات فعالية التعليم عبر الإنترنت شابتها مشاكل من حيث الانتقائية وعوامل أخرى. لكن يعتقد العديد من الخبراء أنّ أفضل شكل من أنماط التعليم هو “المختلط”، أي الذي يدمج ما بين الأنشطة عبر الإنترنت والتعليم داخل الفصل بحيث يكمّلان بعضهما. ويخشى الخبراء أن تقوّض سُمعة التدريس عبر الإنترنت في حال أُسيء استخدامه في هذه الظروف، أي من طرف مدرّسين لم يتمّ تدريبهم بشكل مناسب.
لذا، هل ستنجح التكنولوجيا بإنقاذ التعليم من فيروس الكورونا؟ أم سيكون لهذا الانتقال المفاجئ والقسريّ في نمط التدريس عواقب سلبيّة؟ هل سيصبح التدريس والتعلّم عبر الإنترنت ناضجاً ويصير ميزة معيارية للتعليم، أم أنّه سيكون ضحيّة أخرى للفيروس؟
سيتعيّن علينا انتظار التقييم المناسب من قبل خبراء التعليم خلال الأشهر والسنوات القليلة القادمة قبل الإجابة على هذه الأسئلة. لكن على أيّ حال، هناك شيء مؤكّد: لقد قرعت هذه الأزمة جرس الإنذار للمدارس والجامعات في العالم العربيّ وأماكن أخرى لتحديث بنيتها التحتيّة الرقميّة وتدعيم إمكانياتها في الاتّصال عبر الإنترنت.
ترجمة أ. بسمة ذياب لمقال نضال قسوم الصادر في جريدة عرب-نيوز يوم الإثنين 16 مارس 2020: https://www.arabnews.com/node/1641871
0 Comments:
إرسال تعليق